التـعافي المُبكر وإعادة الإعـمار في سوريا بين الواقِـع والسياسة

فبراير 7, 2022

* موجز السياسات هذا نشر أيضاً من قبل المجلس الأطلنطي.

في الرابعِ والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الفائـت، كشفَ مكـتبُ مراقـبة الأصول الأجنـبية التابـعُ لوزارة الخزانة الأمريكية (OFAC) عن قَرارٍ يَـنصُّ على تَوسِعَةِ الاستِـثـناءات المَمـنوحة للمُنـظَّمات غيرِ الحكومية في سوريا، سَـعيًا لـتَسهيل إشراكها في أنشـطةٍ ومُعامَـلاتٍ إضافيةٍ. ومِنْ أمثـلةِ ما اشتمَـلتْ عليه هذه الإعـفاءاتُ الجَديدةُ: استِـعادة الخَـدمات الصِّحية، وإعادة تَأهيل المدارس المَحـلّية، وتَجديد المَطاحِن، وحماية مواقعِ التّـراث الثـقافي، وشراء النّفـطِ السوريِّ المُكـرَّر بغيةَ استخدامه داخل البلد، إضافةً إلى الشّروعِ في مُعاملاتٍ مُعـيّـنةٍ مع الحكومة في دمشق.

يُسهّل هذا القرارُ إيصالَ المُساعَدات إلى جميع أنحاءِ سوريا، بما يَـضمنُه من عَدم تَجاوزِ المُنـظّمات غيرِ الحُكومية للعُـقوبات الأمريكية الراهِـنَة، في مؤشرٍ على انفِـتاح أمريكا المُتـزايِـد حيالَ مشاريعِ التّـعافي المُبكر في البلاد. بعد هذا القَرار، صَـرَّحَـتْ مُديرَةُ مكتب مُراقَـبة الأصول الأجنبية أندريا جاكي أنَّ واشنطن “لا تـزال مُلتـزِمَةً بضمان وصولِ المُساعدات الإنسانية منَ المجتمع الدوليِّ إلى المدنـيّين السوريّين، بما في ذلك من أنشطةٍ إنسانيةٍ تتعلّـق بالتّـعافي المُبكر”.

ومع ذلك، فإنَّ الاستِـثـناءاتِ الواردةَ من مكتب مُراقـبة الأصول الأجنبية تُـثير تَساؤلاتٍ مُهمةً، يتعلَّق أولُها بمَوضِعِ الخَطِّ الفاصلِ بين إعادة الإعمار والتّـعافي المبكر، وثانيـها بما يَكشِفُه التعافي المُبكر منِ استراتيـجيةِ واشنطن الكبرى بشأن سوريا، وآخـرُها بماهية تَداعيات هذا القرار وهوية المُستفيدين منه.

الفَوارق بين التّـعافي المُـبكر وإعادة الإعـمار

شكّل مفهومُ التعافي المبكر نُقـطةَ خلافٍ كبيرة في الدوائر الإنسانية في السّـنوات الأخيرة؛ ونتيجةً لـتَبايُنِ الآراء حول هذا المفهوم، فقد باتَ البابُ مفـتوحًا على تَفسيراتٍ شَـتّى لـماهيته. في عموم الحال، ووفقًا لـبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإنَّ التـعافي المبكر “نَـهجٌ يُلـبّي حاجاتِ التّعافي في مرحلة الاستِجابة الإنسانية للطوارئ”. بعبارةٍ أخرى، يُمكن تعريف ذلك المفهوم على أنه استِـعادةُ الخدمات الأساسية الرئيسة التي تُمكّن المُتـضرِّرين منَ الاعتماد على أنفسهم اعتمادًا أكـثرَ استِـدامةً، بدلاً منَ الاتّكال المُستمرِّ على مُنظمات الإغاثـة في تَـلـبِـيَة احتياجاتِـهم الأساسية.

وعلى الرغم من تَـبايُـنِ الآراء حول تَعريفه، إلا أنَّ قراءتَـنا للأدبِـيات ونِـقاشاتـنا مع الخبراء في المجال الإنسانيِّ، تُشير إلى وجودِ ثلاثـة فروقٍ بين التعافي المُبكر وإعادة الإعمار. الأول، أنَّ وضعَ خططِ إعادة الإعمار وتَـنفيذَها يَقـعُ على عاتق الدولة، بينما يتمُّ تَخطيطُ وتَـنفيذُ التّـعافي المبكر من قِبَلِ مُنظّمات الإغاثة، سواءٌ كانت مَركزيةً تأتَـمِـرُ بأمر هيـئةٍ إداريةٍ واحدةٍ _كالأمم المتحدة مثلًا_ أو مُنظماتٍ فردية. والفارق الثاني، هو أنَّ التّـعافي المُبكرَ شَكلٌ من أشكال المُساعَدة الإنسانية، أما إعادة الإعمار فليست كذلك؛ إذ يُمكن أن تأتـيَ إعادةُ الإعمار على هيئة قروضٍ مُيـسّرةٍ من مُنظماتٍ منفردة أو متعددةِ الأطراف _كصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي_ أما التعافي المبكر فما هو إلا نوعٌ من أنواع المساعدة الإنسانية التي لا تَستـلزِمُ السَّدادَ لاحقًا. أما الفارق الثالث والأخير، فيتلـخَّصُ في أنَّ التّـعافي المُبكرَ يتم ترتيبُ أولوِيَّـاته تـبعًا للاحتِـياجات الإنسانية، حاله في ذلك حالُ أشكالِ المُساعَدات الإنسانية الأخرى، أما إعادةُ الإعمار فليستْ كذلك بالضرورة. عليه، يمكن النَـظرُ إلى مُساعداتِ التّـعافي المُبكر على أنها نَشاطٌ يقـعُ بين النهج السائد اليوم، والمُتـمَحور حول المساعدات الإنسانية الأساسية _كالغذاء والمأوى وخدمات المياه والصرف الصِّحي والنظافة_ من جهةٍ، وإعادة الإعمار من جهةٍ أخرى.

شدَّد العاملون في المجال الإنسانيِّ لسنواتٍ عدة على أهمية مشاريعِ التّـعافي المُبكر في سوريا، وذلك ابتـغاءَ الوصول لـتَحسينٍ مُستَـدامٍ للظروف المعيشية لمَن لا زالوا يعيشون في البلاد. ففي الآونة الأخيرة، دعتْ وكالاتُ الأمم المتحدة، وهي غيرُ المُلـتَـزمة بالعقوبات الغربية لكونها أحاديةَ الجانب، إلى زيادة الدَّعم، واتخذتْ كذلك خطواتٍ نحو التّـعافي المُبكر. هذا وقدِ اجتـمعَ العديدُ من مَسؤولـي الأمم المتحدة بالحكومة السورية مؤخرًا، إذِ الْـتـقى المديرُ التـنفيذيُّ لبرنامج الغذاء العالمي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بوزير الخارجية السوري، كما الْـتـقى مُمثِّـلٌ عن صندوقِ الأمم المتحدة للسكان بوزير الإدارة المحلية والبيئة؛ وقد ركَّز برنامجُ الأغذية العالمي خلال هذه اللقاءاتِ على تَوسيع نطاق عمل البرنامج في سوريا، وإنشاءِ مشاريعَ مُستَـدامةٍ، والانـتِـقال من المساعدة الإنسانية الطارئة إلى التّـعافي المُبكر والمشاريع المُتوسِّطة والمَديدة. من ناحيةٍ أخرى، ركّز صندوقُ الأمم المتحدة للسكان على تطوير شراكةٍ أوثـقَ مع الحكومة تَرمي إلى تحقيق التنمية المُستَدامة وبناء القدرات. وعلى الرغم من الضغوطات التي مارسَتها الوكالاتُ الإنسانيةُ ووكالاتُ الأمم المتحدة في سبيل الحصول على مزيدٍ من دعم الحكومات الغربية فيما يخصُّ التّـعافي المُبكر، إلا أنَّ مُناشداتها لم تَـلقَ آذانًا صاغيَةً إلى حدٍّ كبير.

السّـياسة والتّـعافي المُبكر

للنِّـظام السوريِّ سجلٌّ حافلٌ في اختلاس المساعدات واستخدامها كسِلاح، سواءٌ من خلال توزيعها في المناطق المُوالِـية وحدها، أو التلاعب بسعر صرف الحوالات المالية للمساعدات، أو توظيف عُمال المساعدات والمُشـتريات من مُقـرَّبِـيه، إلى غير ذلك من أشكال الفساد. وقد أدَّى ذلك إلى ثَـنيِ الحكومات المانحة عنِ الإمداد بالمَوادِّ غير الأساسية، كمُساعداتِ التّعافي المبكر مثلًا. بالإضافة إلى ذلك، أصبح تنفيذُ برامج التعافي المُبكر في المناطق التي يُسيطِرُ عليها النظامُ صعبًا بشكلٍ متزايدٍ، بسبب العقوبات الأمريكية التي ردعتِ المانـحين، ووقفتْ عائـقًا أمام إيصال المُساعَدات.

تُسهِم مساعداتُ التّـعافي المُـبكر، عند وصولها إلى المُستفيدين المُستَـهدَفين، في تحسين مستويات المعيشة لعامَّة السوريِّـين، ولم تَـتوانَ واشنطن عن الإشارة إلى هذا الأمر بـوَصفه جزءًا مُهِمًّا من سياستها. غير أنَّ الولايات المتحدة تُـدرِكُ في الآنِ نَفـسه أنَّ استعادةَ الخدمات الأساسية من خلال التّعافي المُبكر سيُعزِّز قبضةَ نظام بشار الأسد على السّـلطة، وهذا من شأنه أن يُضعِفَ نَـزعـتَه حيال الجلوس إلى طاولة المُفاوَضات الرامية إلى التوصُّلِ إلى تسويةٍ مُستـدامةٍ للصِّراع.

لذا، فإنَّ المُفاضَلةَ بين صانِـعي السياسة الأمريكـيّين تدور حول الأفق الزمـنيِّ لها؛ فهل تَـقوم بـتَقديم المُساعدة المتعلقة بالاحتياجات الأساسية فقط، فيؤدي ذلك بالتالي إلى الإضرار بالسوريِّين المدنـيِّين على المَدى المنظور، ويُعزِّز في ذاتِ الوقت مِنْ فُرصِ التوصُّلِ إلى تسويةٍ سياسيةٍ على المدى الطويل؟ أم أنَّ العكـسَ هو الأنسَب؟

تَأتي الليونةُ الجَلـيةُ، في ظِلِّ إدارة بايدن بشأن التَّعافي المُبكر، على شَكلِ تَـنازلٍ قـدَّمَـته لـروسيا لقاءَ تجديدِ إدخال المُساعدات عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا، بإشراف الأمم المتحدة، حيث اتَّـفقَ أطرافُ مجلس الأمن أنَّ “الأنشطة الإنسانية أوسعُ من مُجرَّدِ تَلـبية الاحتياجات الفورية للسُّكان المُتـضرِّرين، ويجب أن تَشملَ دعم الخدمات الأساسية من خلال مشاريعِ التعافي المُبكر للمياه والصرف الصحي والصِّحة والتعليم والإيواء”.

كما انعكسَ الغموضُ الذي يَكتـنِفُ تعريفَ التّـعافي المُبكر في غياب إجماعِ الدول الفاعلة في سوريا على موقفها تجاه هذا الموضوع. ففرنسا، على سبيل المثال، تُصِرُّ على أنَّ التعافي المُبكر لا ينبغي أن يشملَ مشاريعَ البنـية التحتية، بينما ترى المملكةُ الأردنية الهاشمية خلاف ذلك. تخشى باريس أنْ يُساءَ تفسير مُساعدات التعافي المُبكر على أنها رخصةٌ بإعادة الإعمار أو بـأشكالٍ أخرى من مُساعداتِ التـنمية غير الإنسانية بإشرافٍ محدودٍ أو دون رقيبٍ.

ومع ذلك، لا ينـبغي تفسير مُقايضَة واشنطن مع موسكو على أنها تَحولٌ كبيرٌ في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشأن سوريا، إذ هي كذلك محاولةٌ لإصلاح نظام العقوبات الحالـي. يتجلَّى ذلك بوضوحٍ في إصدار مكـتب مراقبة الأصول الأجنبية _بعد اثـني عشر يومًا فقط من قراره تَخفيف القيود المَفروضة على التعافي المُبكر_ حزمةً جديدةً من العقوبات التي استهدفتْ حينها خمسةً من مَسؤولي النظام لارتكابهم عددًا من الفظائع، بما فيها الهجمات بالأسلحة الكيماوية على الغوطة الشرقية عام 2013 وخان شيخون عام 2017.

مَـنِ المُستـفيد من تَخـفيف القيود على التّـعافي المُبكر؟

الوضعُ الإنسانيُّ في سوريا مُريعٌ للغاية؛ إذ يَعيش قرابةُ 90% من السُّكان في فقرٍ مُدقعٍ، بينما يُعاني 60% منهم منِ انعدام الأمن الغذائي بعدما أدَّى الجفافُ الشديدُ _الأسوأُ منذ عقودٍ_ إلى تَفاقُمِ خطر وقوع كارثةٍ إنسانيةٍ شاملة.

تَخـفيفُ القيود المَفروضة على التّـعافي المُبكر سيُخـفِّف قليلًا من مُعاناة المدنـيِّين، من خلال زيادة هامشِ الحرية التَّـشغِيـلِية لمُزوِّدي المساعدات الحالـيِّين، لا سِيَّما في المناطق التي يُسيطِر عليها النظام، حيث تَفتـقِرُ هذه المناطق بشكلٍ خاصٍّ إلى أنشطة التعافي المُبكر. وسيكون التأثيرُ الأوضحُ من نَصيب المنظمات غير الحكومية؛ حيث أنَّ وكالاتِ الأمم المتحدة لا تَلـتـزِمُ بالعقوبات أصلًا. ومع ذلك، فإنَّ تَسهيلات تقديم مساعدات التعافي المُبكر لن تؤديَ بـحَدِّ ذاتها إلى تحسين الوضع الإنساني، فالتأثير مَرهونٌ بـتَوفر التمويل.

إذا ما حدثـتْ زيادةٌ في تمويل مشاريعِ التعافي المبكر، فمن المُرجَّح أن تَأتِـيَ هذه الزيادةُ من المنظمات الغربية الإنسانية، من خلال جَمعِ تَـبرعاتٍ وليس من خلال تمويلِ الحكومات الغربية. في عام 2021، مُوِّلَـتْ نشاطاتُ “سبل العيش والتعافي المبكر” وفقَ خطة الأمم المتحدة للاستجابة الإنسانية في سوريا _والتي تَدفعُ الحكومات الغربية معظمها_ بـنِسبة 6.9% فقط؛ وهو أدنى مُعدَّلٍ لها منذ اندلاع الصِّراع عام 2011. فقد سبقَ أنِ امتَـنعتِ الحكومةُ الأمريكيةُ عن تمويلِ أنشطة الأمم المتحدة الخاصَّة بالتعافي المبكر في المناطق التي يُسيطِرُ عليها النظام على مدى السنوات القليلة الماضية، وركزتْ بدلًا من ذلك على تأمين التمويل المُخصَّص لعملياتٍ مُحدَّدةٍ تُـنفِّذها الأمم المتحدة في الأراضي الخاضعة لسيطرة النظام في مجالاتٍ أخرى. يمكن تَحسُّسُ ذاتِ التردد لدى كثيرٍ من المانحين الأوروبـيِّين، وهو ما قد يتغير في السنوات المقبلة.

وبافـتِراض زيادةٍ كبيرةٍ في تمويل مشاريع التعافي المُبكر، فإنَّ التأثيرَ العامَّ على تَحسُّن الوضع الإنساني للسوريِّين سيَعتمِدُ على مدى نهب نظام الأسد لها، والأفق الزمني. فـبينما سيَستفيدُ المَدنِـيون بلا شَكٍّ على المدى القريب، إلا أنَّ الراجحَ أن يكون التأثيرُ على المدى المتوسط والطويل سلبيًّا، لأنه سيؤدي إلى ترسيخِ قوة الأطراف المُتـحاربة على الأرض _وخاصَّةً النظام_ ويُقـلِّل من فرص إيجاد حلٍّ سياسيٍّ مُسـتَدام. كذلك ستَستـفيدُ دمشق بشكلٍ غير مباشرٍ؛ حيث ستُفسِّر الدولُ الراميةُ إلى تَطبيع العلاقات مع النظام تخفيفَ القيود المَفروضة على التعافي المبكر ــ على أنه علامةٌ أخرى على تخفيف حدةِ الاعتراضات الغربِـيَّة على التَّـطبيع.

يَحتاج صُناع السياسة في واشنطن إلى ضمانِ عدم تحول برامج التعافي المُبكر إلى إعادةِ إعمارٍ شاملةٍ دون إحرازِ تـقدمٍ مَلموسٍ على الجبهة السياسية ــ تَـقدمٍ يَـتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 والذي يَدعو إلى وقف إطلاق النار والشُّروع بتسويةٍ سياسيةٍ. بالإضافة إلى ذلك، يتعيَّن على واشنطن تنفيذُ آلياتٍ تتعـقّب من خلالها بشكلٍ فعالٍ كيفيةَ تأثير إعفاءاتها على توزيع المُساعدات على الأرض، ومَن يكون بالضبط المستفيد من برامج التعافي المبكر.

لا تَزال هناك مخاطرُ جَـمَّة، وحاجةٌ لاتخاذ إجراءاتٍ فوريةٍ لـتَجـنُّب المزيد من المُعاناة وإثراء النظام من المساعدات؛ غير أنه لا يمكن تحقيقُ ذلك إلا من خلال رؤيةٍ سياسية شاملةٍ لإدارة جو بايدن لحَلِّ الصّراع، وهو ما لم يَتـبلوَر حتى الآن.

سامي عقيل: زميلٌ زائر في مركز الدراسات العربية والإسلامية في الجامعة الوطنية الأسترالية، وزميلٌ باحثٌ غير مُقيمٍ في مركز السياسات وبحوث العمليات (OPC).

لمُتابعته عبر تويتر: @Sakil963

الدكتور كرم شعار: مدير الأبحاث في مركز السياسات وبحوث العمليات (OPC)، وباحثٌ غير مُقيمٍ في معهد الشرق الأوسط. 

لمُتابعته عبر تويتر: @Karam__Shaar